بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 16 فبراير 2024

العلم في الغرب

 العلم في الغرب

أنور الجندي 

منشورات المكتبة العصرية 

صيدا - بيروت 

###٩١### العلم في الغرب 

انتقل هذا العلم الإسلامي مع كل نتاج الفكر الإسلامي إلى أوروبا، واستقر في "الأندلس" ثمانمائة عام، فكانت منار الغرب كله، وكانت جامعاتها موئل المثقفين من مختلف بلاد أوروبا، التي كانت قد سقطت في ظلمات القرون الوسطى حوالي عام ٤٠٠ ميلادية قبل ظهور الإسلام بقرنين تقريبًا، وظلت سادرة في ظلامها حتى أوائل القرن الخامس عشر بعد أن قطعت أكثر من ألف سنة كانت أضواء الإسلام خلالها قد عمت الآفاق. 

فقد وصل المسلمون إلى شواطئ أوروبا في أوائل القرن الثامن الميلادي - أي بعد أربعمائة عام تقريبًا من سقوط روما - ومنذ ذلك الوقت حتى سقوط غرناطة في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، كان وجود الإسلام في أوروبا ###٩٢### كلها (الأندلس أصلا وجنوبي فرنسا وإيطاليا) وجودًا حقيقيًا، يتمثل في حضارة كاملة بجامعاتها وعلومها وآثارها وكتبها وفكرها. 

ولقد كان إنهاء هذا الوجود على هذا النحو الذي تجمع عليه كتب التاريخ الإسلامي والغربي جميعًا، ولا يختلف فيه هو أشبه بمؤامرة ضخمة، حاصرت العلم والجامعات والنتاج الإسلامي كله، ثم أخرجت المسلمين منه إلى شاطئ أفريقيا تحت اسم أوروبا للأوروبيين، ففي خلال هذه الفترة الضخمة الخصبة التي استمرت من ٧٢٢ ميلادية (١٠١ هـ) إلى سقوط غرناطة ١٤٩٢م (٨٩٨ هـ) تحول إلى أوروبا كل نتاج العلم الإسلامي داخل إطار فكرة الجامع، وهي فترة تزيد على ٧٧٠ عامًا كاملة. 

ومن هذا النتاج وأدواته ومصادره، قامت النهضة الغربية الحديثة التي عرفت باسم "الرينسانس" والتي تمثلت في مصادر كثيرة، أبرزها أولئك العلماء الذين تعلموا في جامعات الأندلس، ثم انتشروا في جامعات فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، فكانوا نواة النهضة الأوروبية الحديثة، وأخذوا بالخيط من نقطة توقف المسلمين، وساروا به حتى بلغوا بالعلم والحضارة هذا المبلغ الذي نراه اليوم. 

###٩٣### غير أن النهضة الأوروبية لم تتخذ الفكر الإسلامي مصدرًا لها، وإن كان قد فتح لها الآفاق إلى المدنية، وكان أول ما أعطاها مفهوم الإرادة الإنسانية الحرة؛ هذا المفهوم الذي حطم مفهوم العزلة عن الدنيا والعكوف في الأديرة. ثم أعطاها مفهوم حرية فهم النص المقدس والاتصال بالله اتصالا مباشرًا دون وساطة، وهذا ما دعا إليه لوثر وكالفن، ثم كان المنهج العلمي التجريبي الذي وصل إلى نقطة أساسية، وهي معرفة أسلوب الوصول إلى كشف قوانين الطبيعة بالإضافة إلى ذلك التراث الضخم في عالم الفلك والبحر والطب والصناعة التي عاشت عليه أوروبا بعد ذلك ثلاثة قرون كاملة حتى استطاعت أن تقيم به النهضة الصناعية المدنية. 

فالإسلام هو الذي لم تقبله أوروبا حين قبلت المنهج العلمي الإسلامي، وهو الذي أطلق العقل الإنساني من قيوده الذي كبلتها به الوثنية غير أن أوروبا صاغت فكرها الجديد من أصول قديمة، قوامها الفلسفة اليونانية والقانون الروماني وطابع المسيحية بتفسيراتها التي لم تكن تمثل الدين الذي أنزل على نبي الله عيسى عليه السلام. 

وقد حال ذلك كله دون أن تضع العلم في موضعه الصحيح الذي رسمه له الإسلام، أو الدين بعامة، فكان ###٩٤### أن تقدمت أوروبا في مجال العلم التجريبي، وانحرفت في مجال الفكر الفلسفي والاجتماعي والسياسي على النحو الذي أسلمها من الفلسفة المثالية إلى الفلسفة المادية التي يعيش فيها الغرب في هذا القرن حياته كلها، وقد كان ذلك أثره على اتجاه العلم ومنتجاته وآثاره وخططه في المجتمع والحضارة، وتلك هي أزمة العلم والحضارة. 

ثانيًا: عندما بدأ العلم يقدم اكتشافاته، وقع الصدام بينه وبين رجال الدين، فقد كانت الكتب القديمة، قد وضعت مقررات عن الطبيعة والأرض والزمان، اختلفت مع ما حاول العلم أن يثبته. 

وقد انتهى هذا الصراع بموقف عداء مع رجال الدين ومع الدين نفسه، وفي هذه المراحل استعلى العلم بكشوفه، وحاول أن يشق طريقه بعيدًا عن الدين، فظهرت مفاهيم مختلفة منها الدين البشري والإلحاد والخصومة بين العلم والدين. 

غير أن العلم الذي أصابه الغرور الشديد حين أعلى مفاهيم المادة والعقل، وأنكر الجوانب الأخرى في الحياة الإنسانية كالروحية والغيب والوحي والدين، قد شق طريقًا صعبًا يتمثل واضحًا في كتابات أرنست رينان، وهربرت ###٩٥### سبنسر، وغيرهم من الفلاسفة لا العلماء. 

فقد حاول هؤلاء بالإضافة إلى بخز وغيره تفسير الحياة تفسيرًا ماديًا صرفًا، وبلغ الإيمان بالعلم درجة كبرى حتى وصفه أرنست رينان في كتابه "مستقبل العلم" بأنه سينقذ الإنسانية وأن العصر الذي يسود فيه العقل، وتصل فيه الإنسانية إلى الكمال آت لا ريب فيه. ومن ثم قام مفهوم مسيطر هو أن العلم كل شيء، ولا شيء غيره، وأنه هو الذي ينظم المعرفة على اختلاف أنواعها. 

ومن ثم نشأت نظرية قيام المجتمع على أساس المحسوس والمعقول وحدهما، وإنكار ما سوى ذلك من دين وغيبيات ووحي ورسالات سماء، واعتبار ذلك كله من الوهم الذي يغرق فيه الجهلاء. (ولندع الجانب الفلسفي حتى نصل إليه) أما العلم فقد تبين له بعدما قطع أشواطًا طويلة أنه ليس قادرًا على الإجابة على كثير من الأسئلة، وخاصة معرفة كنه الأشياء ومصادرها وغاياتها، ومن ثم فقد تقرر بصورة عامة أن العلم لا يفسر الأشياء، ولا يعللها، ولكنه يصفها ويقررها، فمهمة العلم قاصرة على وصف الظواهر وتقريرها، وبذلك خفف العلم من غلواء النظرة الأولى التي كانت في أذهان الأوائل، وهي تفسير الوجود بحيث يصبح ###٩٦### العلم هو المنهج الوحيد للمعرفة، سواء في مجال العلوم الطبيعية والرياضية أو مجال الإنسانية، وتخلى العلم عن الإجابة عن "لماذا" بعد أن تبين لهم عبث هذه المحاولات وعقم نتائجها، وترك العلم للفلسفة مهمة البحث عن العلل النهائية للوجود بعد أن عجز في هذا المضمار، ولم يسفر بحثه عن شيء. 

وقرر العلماء أن العلم إنما يقدم مجموعة من الفروض الظنية لتفسير الطبيعة، وأن هذه الفروض تتحول بالتجربة إلى قوانين، كما قرر العلماء أن العلم لا يفسر شيئًا، وإنما هو يربط وينسف ويلاحظ ملاحظة منهجية، وبالتالي يصف ويقرر، وليس هذا فهمًا للأشياء، ولكنه تعرف عليها، ويقرر العلماء أن العلمية تقتصر على ظواهر الطبيعة، وأعمال البشر وعلاقاتهم التي يمكن أن تستخدم المشاهدة والتجربة لاكتشاف قوانينها، ومن ثم فقد وصل العلم إلى تقرير أن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك شيئًا إلا عن طريق الحواس، ولذلك فكل ما يقف وراء الحس والعقل، فلا يمكن للعلم أن يبحث فيه، أو يعرف عنه شيئًا، كذلك فقد تقرر أن حقائق العلم ليست مطلقة ولا أبدية، بل هي تقرر الحقيقة النسبية، وما يزال للبحث العلمي صراع بين الإنسان والطبيعة. 

###٩٧### فكلما ازداد الإنسان معرفة لقوانين الطبيعة، ازدادت سيطرته عليها، وما زال العلماء يتساءلون: هل يستطيع العقل أن يدرك الحقيقة؟ لقد قطع أشواطًا بعيدة خلال ثلاثمائة سنة، فهل استطاع الوصول إلى الحقيقة؟ 

كذلك فإن العلم ما زال يجهر الإنسان بأفظع وسائل الفتك والتدمير، وزعم تقدم العلم، فإنه عجز عن حل المشاكل الكبرى المتمثلة في أصول الكون ونهايته وطبيعة المادة ومنشأ الحياة وخلود الروح، وما زالت آراؤه مضطربة. 

يقول مارتين ستانلي كونجدن: "إن نتائج العلوم تبدأ بالاحتمالات، وتنتهي بالاحتمالات، وليس باليقين" ونتائج العلوم بذلك تقريبية، عرضة للأخطاء في القياس والمقارنات، ونتائجها اجتهادية وقابلة للتعديل بالإجابة والحذف، وليست نهائية، وقد اضطر العلم منذ أجيال أن يترك البحث في كنه الأشياء بعد أن تبين له أن لا سبيل إلى معرفة الكنه المغيب عن الحواس، واكتفى بدراسة ظواهرها. 

ولا ريب أن لغلبة المادية الصرفة عن العلم، ولانفصاله عن الروح، ولتجاهله الدين والوحي ورسالة السماء التي قد قدمت للإنسان عالم الميتافيزيقا في وضوح ###٩٨### كامل، لا ريب أن لهذا كله أثره في عجز العلم عن فهم كنه الأشياء، وعن قصوره عند المحسوس وحده، ويقول رسل تشارلز أرنست: إن كل الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين، ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله، لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر المتطلع للعالم على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية "." 

ثالثًا: هاجم "روجر بيكون" ومن بعده "ديكارت" المنطق الأرسطي، وما يفضي إليه من اعتماد على العلم طريقة القياس، وقال: إنه ينبغي أن يعتمد قبل كل شيء على التجربة، وكان العلماء المسلمون قد سبقوهما في ذلك بأكثر من سبعة قرون، وكان التحذير من استخدام المنطق الأرسطي يرجع إلى تصوره، وكان المنهج العلمي الصحيح هو الذي يجمع بين التجربة وبين القياس، أي: بين الاستقراء القائم على التجارب وبين القياس المحكم، وأطلق على هذا "المنطق الحديث" ولم يكن هذا الجمع إلا ما دعا إليه البيروني وابن الهيثم وجابر بن حيان، ثم جاء مفكرو الغرب من بعد ذلك يعلنون أن المنطق الأرسطي، قد انتهى زمنه، ###٩٩### وحل بدلا منه المنهج العلمي الذي يعتمد على دراسة الظواهر ورصدها مع الجمع بين التفكير النظري وبين الملاحظة والتجربة. 

وكان هذا هو ما قرره المسلمون من قبل، وجاءت آراء كانط وديكارت ونيوتن في الطبيعة وانكسار الضوء والإبصار، فهللت لها أوروبا، ثم تبين من بعد أن أغلبها مأخوذة من ابن الهيثم، وهلل الغرب لـ "هارفي" ووصف بأنه مكتشف الدورة الدموية مع أن مكتشفها الذي سبق هارفي بقرون هو ابن النفيس. 

وهللت أوروبا لآراء دارون ولامارك في التطور، وقد ذكرها ابن مسكويه، وما نادى به لامارك من أثر الطبيعة والبيئة على الأحياء سبقه إليه ابن خلدون حيث قال: إن العادة قد تغير من صفات العضويات كما يغير الطقس، ويضاف إلى ذلك ملاحظات الجاحظ وابن سينا في التطور والارتقاء. 

وقبل كبلر وجاليلو وكوبرنيك وضع العلماء المسلمون علم حساب المثلثات بطريقة منظمة، واعتبر علمًا إسلاميًا، وعملوا الأرصاد، وأقاموا المراصد، وقدروا أبعاد بعض النجوم والكواكب، وقالوا باستدارة الأرض، وقاسوا ###١٠٠### محيطها، وحسبوا طول السنة الشمسية، ورصدوا الإعتدالين، وحسبوا طول السنة الشمسية، وكتبوا عن البقع الشمسية وعن الكسوف والخسوف، ووضعوا أسماء كثير من الكواكب التي ما زالت تستعمل حتى اليوم: (الدب الأكبر - الأصغر - الحوت - العقرب - إلخ) . 

وهذا كله يعني أن الأصول العامة التي تفرعت من بعد، قد أرسى دعائمها المسلمون حتى جاءت النهضة العلمية الحديثة، فاندفعت إلى آفاق بعيدة، فاتسعت مجالات العلم من كيمائية وجولوجية ورياضية، وفلكية، وطبيعية ونبات وحيوان، ووصلت إلى المفاعلات الذرية والتفاعلات الكيميائية المختلفة وإرسال القذائف الصاروخية والأقمار الصناعية وسفن الفضاء وغزو الفضاء. 

غير أن الملاحظ أن هذا التقدم العلمي قد اعترضته مجموعة من المحاذير الخطيرة: 

أولا: كان اختلافه مع الكنيسة مصدرًا من مصادر خلافه مع الدين ووقوع الصراع والتعارض على النحو الذي فصل العلم عن روح الدين كلية وعن أخلاقياته، فاندفع في طريقة لإنتاج آلات الدمار والذرة وأخطارها في الحروب وفي الاستعمار، وبالنسبة للشعوب الضعيفة. 

###١٠١### ثانيًا: أعطى العلم سره للقوى الكبرى، وحجبه عن عامة البشر والناس، فلم يكن أداة سعادة للإنسانية، كذلك اتجه إلى الجانب الحربي أثر مما اتجه إلى جانب تخفيف آلام الإنسانية، كذلك انحرف إلى جانب الترف والغرائز والأهواء. 

ثالثًا: حاول السيطرة بأساليبه المادية على العلوم الإنسانية وقضايا الأخلاق والنفس والمجتمع، بينما لم تكن أدواته هذه صالحة لهذه الوجهة. 

رابعًا: أعان على ظهور الفلسفة المادية، فانحرف بالبشرية إلى أخطر أزمات الإنسان حين 

أعلى من شأن الجوانب المادية، وأنكر الجوانب المعنوية والروحية والنفسية. 

خامسًا: كان من أخطر طوابعه إنكاره مصدر القوانين والنواميس الطبيعية والعجز عن نسبتها إلى صانعها الأول: الحق تبارك وتعالى. 

رابعًا: كانت نظرية التطور التي جاء بها دارون، هي أول نقاط تحول العلم الغربي إلى المادية وسيطرة المفهوم المادي على الاجتماع الإنساني، فلقد كان دارون يرى أن جميع الكائنات الحية التي كانت تعيش على الأرض، قد نشأت من أصل واحد أو عدة أصول، ولم يزعم دارون أن الإنسان قد ###١٠٢### انحدر من القرد مباشرة، ولكن من نوع من الكائنات أقل مرتبة من الإنسان، ثم اجتاز مرحلة تطور فائقة اكتسب فيها القامة المعتدلة والعقل، وما قدمه دارون لم يكن إلا نظرية، والنظرية أساسًا تقوم على فروض تتجمع لترجح وجهة نظر معينة، فبحكم ما وصل إلى علم دارون وما اطلع عليه من جماجم وحفريات افترض هذا، وبالرغم من أن ما قاله دارون كنظرية قابل للنقض والمعارضة، فقد حورتها الفلسفة إلى ظاهرة اجتماعية هي التطور الاجتماعي؛ "وهذا له مجال في دراسة الفلسفة" . غير أن كثيرًا من العلماء لم يقبلوا افتراض دارون، وكشفت أبحاث هكسلي وغيره من أن الإنسان مخلوق فريد من الناحية البيولوجية، ومن النواحي العقلية والنفسية، وأنه في هذا يتميز تميزًا واضحًا عن الحيوانات. ولقد ناقض دارون تلاميذه وأقرب الناس إليه، ووجدت مفاهيم دارون في تنازع البقاء في السلالات اختلافًا كبيرًا بين خلفائه، وعدلت عشرات المرات، وثبت تضاربهما وتعارضهما، وأبرز من عارض دارون "لالاند" في كتابه "خداع التطور" فقد أثبت خطأ نظرية التطور من الأساس. 

ويقول أقرب الناس إلى دارون: إن دعوته إلى تنازع البقاء، قد حالت بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة، ###١٠٣### والتعاون أكبر من التنازع. 

ومن الغريب أن "لامارك" قد علل قبل "دارون" النشوء والارتقاء تعليلاً غير هذا، فقال: إن النشوء والارتقاء إنما ينجم عن تكيف الأحياء وفقًا لبيئتها وتوارث الصفات المكتسبة، وقال آخر بما يسمى التحول الفجائي بين الأحياء، وقد اشترك كثير من الفلاسفة والعلماء في دراسة الصلة بين المخلوقات، وقالوا بوجود قرابة بين الإنسان وسائر الحيوانات، ولكنهم لم يتوصلوا إلى إيجاد تعليل واف يبين كيف تم ذلك، وقد أطلق على هذه النقطة اسم "الحلقة المفقودة" التي ما زالت إلى وقت قريب موضع تعلة الماديين وتمسكهم بهذا الرأي. 

خامسًا - تبين من الأبحاث التي أجريت فيما يتعلق بنظرية دارون من الناحية البيولوجية الخالصة أن الإنسان لم يتطور إلى كائن آخر، وما زال هو الإنسان الذي وجد منذ عرف بصورته هذه، وقد مرت عليه عشرات الألوف من السنين، ولاريب أن هذا الثبات ينفي القول بتطوره قبل ذلك إلى صورته الحالية،كذلك، ثبت بطلان نظرية الاستعمال والإهمال، وقد قام الدكتور أوجست ولبرمان فأخذ فيرانًا وقطع أذنابها بمجرد ولادتها، واستمر في ذلك حتى ###١٠٤### الجيل الثاني والعشرين، فلم تحدث حادثة واحدة أن ولدت فأرة بغير ذنب، وكان لامارك قد افترض من استعمال أي عضو ينميه ويقويه، وترك أي عضو بسبب ضموره وتلاشيه. 

ولقد حاول أرنست هيجل أن يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه دارون، فأعلن تسلل الإنسان من القردة مباشرة، وقد تعددت الأبحاث منذ سنوات طويلة في هذا المجال للبحث عن الحلقات المفقودة، وجرت دراسة آلاف العظام والجماجم وبقايا الإنسان المتناثرة في أنحاء العالم القجيم من جزر جاوة، إلى كينيا وروديسيا والصين، وقد وجدت قطع من العظام والجماجم ترجع إلى ما يقرب من خمسة عشر مليونًا من الأعوام وتعددت كشوف العلماء، وتوالت حتى جاء الدكتور ليكي مدير المتحف الوطني في كينيا الذي يوالي أعماله الحفرية منذ ثلاثين عامًا ليعلن عام ١٩٦٤ م بأنه اكتشف مجموعة من المخلوقات في جبال كينيا تختلف اختلافًا شديدًا عن شجرة دارون وعن فكرة القرد الحيواني، ومعنى هذا أن القرد الحيواني لا ينتمي لشجرة التطور الإنسانية، وأنه انقرض تمامًا، ولم يخلف أي أثر، واستمر الدكتور ليكي في أبحاثه حتى أصبح شوكة في جنب علماء الأنثروبولوجيا قبل أن يموت عام ١٩٧٢ م. 

###١٠٥### واستطاع خلفه ريتشارد أن يقع على أهم اكتشاف في هذا المضمار، فقد وجد في أحد جبال كينيا جمجمة وعظامًا هزت الأوساط العلمية ترجع إلى مليون وستمائة ألف سنة تقريبًا، وأهم ما يميزها أن حجم المخ ووحداته ضعف حجم مخ "القرد الحيواني" رغمًا من أنها تزيد على القرد الحيواني بحوالي مليون سنة، ويعطي هذا الكشف تأكيدًا عمليًا بأن الجنس البشري ينتهي إلى فصيلة أخرى غير فصيلة القرد الشمبانزي، وقد وجدت الحفريات مجموعة كبيرة من بقايا القرود، وسمي الاكتشاف الجديد الإنسان ١٤٧٠ ومن أهم ما يميزه أن زاوية ارتباط العمود الفقري بقاع الجمجمة، يؤكد أنه كان قادرًا على المشي مثلنا تمامًا، ولم تكن له صفات الوحش المعتدي، وهذا يدحض نظرية دارون في أن الصفات العدائية في الإنسان ترجع إلى أجداده القرود. 

وكان البرفسور جوهانس هوردبر العالم الذري في سنمبتال بسويسرا قد أذاع بيانًا في "١٠ مارس ١٩٥٦ م" عارض فيه نظرية دارون بشدة، وقال: إنه لا يوجد دليل واحد من ألف على أن الإنسان من سلالات القرود، وأن التجارب الواسعة التي أجراها دلت على أن الإنسان منذ عشرة ملايين سنة، يعيش منفردًا وبعيدًا جدًا، كذلك أعلن دكتور ###١٠٦### رويتر المشرف على أبحاث جامعة كولومبيا، وأيده البروفسور هوردلر "٣١ مارس ١٩٥٦ م" أن نظرية دارون لا أصل علمي لها، وأن الكائنات إنما خلقت مستقلة الأنواع استقلالاً تامًا، فمنها الإنسان الذي يمشي على رجليه، ومنها الدواب التي تمشي على أربع، ومنها الزواحف التي تمشي على بطنها، كذلك أعلن العلامة هوجودي فريس: أن الأنواع قد ظهرت إلى عالم الوجود دفعة واحدة كاملة العدة دون سابق إعداد أو خطوات متوسطة، فلم يكن ثمة حاجة إلى سلسلة من الأجيال المتعاقبة أو الانتخاب الطبيعي أو تنازع البقاء. 

ويقول الدكتور كريسي موريسون: إن كل نوع شجرة مستقلة، وإن القانون يتحكم في التنظيم الذري بالجنينات التي تقرر قطعًا كل نوع من الحياة من البداية إلى النهاية، ويقول جوليان هكسلي: إذا كان الحيوان قد تحول إلى إنسان في الماضي، فلماذا لا تتحول بعض الحيوانات الحالية إلى أناس؟ 

وصدق الله العظيم إذ يقول: [والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير] [٤٥- سورة النور] . 

###١٠٧### وقد جاءت هذه التجارب بعد أكثر من سبعين عامًا ملتقية مع حقائق القرآن الكريم في خلق الأنواع كلها مكذبة لما ظن دارون وما كان قد فرضه بناء على ما وصل إليه من دليل. 

ومن الحق أن يقال: إن نظرية دارون هي التي فتحت الباب واسعًا ليس أمام العلم، ولكن أمام الفلسفة المادية والشك الفلسفي وأمام خطوات أخرى، استخدمت لها في سبيل غايات بعيدة لتدمير البشرية، وقد سجلت بروتوكولات صهيون طرفًا من هذا الاتجاه في عبارة تقول: 

"إن دارون ليس يهوديًا، ولكننا عرفنا كيف ننشر آراءه على نطاق واسع، ونستغلها في تحطيم الدين" والوقع أن دارون لم يكن أكثر من باحث قدم ما وصل إليه، ولم يكن في مذهب دارون ما ينفي وجود الله، ولكن ما جاء في مذهب دارون يختلف اختلافًا صريحًا مع ما جاء في الكتب المقدسة عن الخليقة وأصل الإنسان، ولكنه لم ينكر وجود قوة أزلية قادرة "هي المرجع الأول والأخير ما في الكون، ومن هنا كان الخلاف مع رجال الدين المسيحيين الذين أصروا على ما في كتبهم، غير أن الأمور لم تقف عند هذا الحد، فإن خلفاء دارون من رجال العلم شطوا في النتائج التي توصلوا ###١٠٨### إليها، كذلك فلقد تلقف الفلاسفة ومن وراءهم القوى التي أرادت أن تنتفع بالنظرية في غير مجالها البيولوجي حين نقلها هربرت سبنسر إلى مجال الاجتماع. وإن أخطر ما قرره دارون وهو" تنازع البقاء "قد استغل استغلالا سيئًا في نظريات الماركسية والجبرية التاريخية وغيرها، ولقد أكدت الأبحاث الرصينة فشل دارون في تعليل التطور بتنازع البقاء، ذلك لأن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة التجارية في لنكشير، ومن كفاح الإمبراطورية لخطف الأسواق وإذلال الأمم، هذه العواطف هي التي حملته على أن يكبر من شأن التنازع: تنازع البقاء، وحال بينه وبين رؤية مئات من صور التعاون في الطبيعة والأحياء." 

وقد ثبت أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع، وأن دارون أخطأ خطأ فادحًا عندما زعم أن تنازع البقاء هو كل شيء، أو كاد يكون كل شيء، وإن كان فهمه كان محدودًا، وقد تبين أن التعاون في الطبيعة أكبر أثرًا وأوسع مدى من التنازع، وقد استغلت نظرية دارون في مجال الاستعمار استغلالا سيئًا، واتخذت وسيلة للنظم الغربية الديمقراطية في تبرير سيطرة الدول القوية على الدول الضعيفة. 

###١٠٩### كذلك فإن ما وصل إليه دارون في التطور يختلف عما وصل إليه المسلمون الذين لاحظوا التدرج في مراتب المخلوقات من الجوامد إلى النبات إلى الحيوان إلى الإنسان، ولكنهم نظروا إلى تطور الإنسان من حيث نظر القرآن إليه: نطفة وعلقة ومضغة مخلقة وغير مخلقة، وهكذا فهم ينظرون إلى تطور خلقه حتى أصبح خلقًا آخر متكاملا، ولم يقولوا: إنه من أصل حيواني، ولم يبخسوه قدره، ولم ينفوا عنه مزايا، التي تفرد بها، وردوا تمييزه ابتداء إلى إرادة الله الصريحة من خلقه هكذا منفردًا ليصبح مستخلفًا في الأرض. 

أما نظرية التطور التي قال بها دارون، فقد اتخذت سبيلا إلى القول بالتطور المطلق، وهذا ما لا يقره المفهوم الإسلامي الذي يقرر الإطار الثابت للكون وللإنسان، ويقرر الحركة من داخل هذا الإطار "الحركة داخل إطار ثابت وحول محور ثابت" كما تتحرك الكواكب والنجوم، أما التطور المطلق، فقد أريد به دفع البشرية إلى غايات خطيرة غير ما أراد لها الدين الحق. 

وقد انتهي هذا إلى القول بالتطور في مجال الأخلاق والعقائد، وهو ما يجعل من أصول الدين الراسخة مجموعة من المبادئ النسبية التي ليست حقائق مطلقة، يمكن أن ###١١٠### تتطور وتتطور إلى ما لا نهاية، وهو ما ليس كذلك. 

فالإسلام يقرر أن هناك ما هو ثابت راسخ، وهي الأصول العامة، وهناك ما هو بسبيل التغيير والتبديل حسب البيئات والعصور، وهو المسائل الفرعية. 

سادسًا: كان لفتوحات العلم أثرها في الفكر الغربي البعيد المدى، وبلغ هذا الأثر غاية عنفه في مواجهة الدين ورجال الدين والكنيسة وتفسيرات الكتب المقدسة التي لم تكن إلا اجتهادات، كذلك كان للعلم أثره في الفلسفة، فإن نظريات العلم طغت على الفكر كله، وأثرت فيه، وكانت الفلسفة هي البديل للدين اعتمادًا على العقل، والنظرة التي وجهت إليه بالتقديس، ثم كانت هناك محاولة سيطرة العلم بمنهجه المادي التجريبي على العلوم الإنسانية، ثم كانت تلك النزعة المادية التي وضعت الطبيعة في موضع الله - سبحانه وتعالى - وأعطتها كل أسباب الإرادة والقوة والحركة. فاختفى بذلك تمامًا من أفق العلم. وأبحاثه ونظرياته الصانع الأكبر، والخالق الأول، الذي خلق من العدم ومن غير مادة موجودة، وكان لهذا آثاره العامة على الحضارة والمجتمع والحياة حين أعلى شأن العلوم المادية مع تقديس العقل وتأليه الطبيعة، بينما تراجعت العلوم الإنسانية وكل ما يتصل ###١١١### بالنفس والروح والمعنويات والأديان والأخلاق، وكل هذا من أكبر الأخطار التي واجهت العالم المعاصر وسر ما أطلق عليه أزمة الإنسان الحديث؛ كأن سر ذلك هو العجز عن التوازن بين الفكر والمادة والروح والجسم، واتساع النظرة العلمية والعقلية مع قصور العطاء النفسي والروحي، وهو ما عبر عنه كثير من الباحثين بالعجز عن تطوير قلب الإنسانية كما طور عقلها، وقد نتج عن ذلك ما تواجهه البشرية الآن من الحيرة والقلق ونزعات الفراغ والضياع، وقد قال برجسون في هذا: إن جسم البشرية قد تضخم تضخمًا خارقًا للعادة، فأصبح في حاجة إلى مزيد من العطاء الروحي، ذلك أن الذهن البشري وحده لا يستطيع فهم الحياة، وهذا هو ما نريد أن نصل إليه من البحث أنه إذا كان العلم هو وسيلة وأسلوبًا إلى فهم الحياة، فإنه عن طريق أدواته المادية، وعن طريق العقل، قد عجز عن ذلك تمامًا، إذن فهو ليس إلا جزءًا من منهج كبير كما يفهم الإسلام. هذا 

المنهج يقوم على أجهزة كثيرة وأدوات متكاملة، منها الوحي والدين والعقل والعلم، فهي كلها تتكامل ولا تتنازع وتستطيع بالمواءمة أن تقدم للإنسان أسلوبًا لفهم الحياة أكثر صدقًا وقوة لأنها تقف عند جانب واحد، ولكنها تنظر في كل الجوانب، وتلك هي الصيحة المتعالية الآن في الغرب بعد أن وصل العلم إلى ###١١٢### تحطيم الذرة التي تقول بعجز العلم عن حل المشاكل، وأن العلم مهما تقدم فهو محدود، وأن هناك طاقة معطلة في العمل ورثة معطلة في المجتمع البشري تلك هي الدين، وكذلك فقد سقطت فكرة الاستقلال المتبادل بين الدين والعلم، فالدين أصل، والعلم فرع منه. 

وقد تأكد الآن أن العلم سوف يعجز عن القضاء على الدين، بل سوف يؤكد الدين، وإذا كان الدين الحق لا يفسر ظواهر الكون كالعلم، فإنه يضع الإطار الأخلاقي للحياة، ويرسم المنهج الذي تقوم عليه العلاقة بين الله والإنسان والإسلام هو الذي أقام للعلم منهجه ومنطلقه من حرية البحث وهو الذي وضع العلم في إطار أخلاقية القيم، والتقوى الربانية حتى لا يستعلي بنفسه، أو يستعلي به طائفة من الناس، فيهددوا به البشرية أو يحرموها ثمرته، وحتى لا يكون أداة لإبادة الأمم أو إثارة القلق والاضطراب في المجتمعات من توقع خطر الحروب، كذلك حتى لا تكون مقرراته ومعطياته خاصة يقوم دون آخرين، ولكن ليكون لسلام البشرية كلها. 

. .. ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عندما اعترفت أوروبا بفضل المسلمين

  عندما اعترفت أوروبا بفضل المسلمين سيف صلاح الهيتي 21/2/2017 احفظ المقالات لقراءتها لاحقا وأنشئ قائمة قراءتك عرفت الحضارة العربية الإسلامية...